....
لعبت الوراثة، وربما البيئة أيضاً، دوراً مهماً في ظهور حالات مرض «ثالاسيميا». وأصل تسمية هذا المرض جاءت من لغة اليونانيين، حيث يُطلقون كلمة «ثالاسا» Thalassa على «البحر». وكلمة «هيميا» Haema على الدم.
وبالتالي لم يجد المُعرفون الطبيون بالأمراض، أفضل من اسم «ثالاسيميا» Thalassaemia لمرض الدم الوراثي المنتشر بين أفراد شعوب مناطق البحر الأبيض المتوسط، وبنسبة هي الأعلى بين سكان اليونان وجزرها.
ولأن «فقر الدم» هو أهم أعراض هذا المرض الذي يطال بالضرر إنتاج نوعية سليمة من مركب الهيموغلوبين Haemoglobin، فإن لفظ «أنيميا»، أو فقر الدم، يُكمل التسمية للمرض.
«أنيميا البحر الأبيض المتوسط»، أو «ثالاسيميا»، من الأمراض الشائعة ليس فقط في كافة الدول المُطلة على البحر الأبيض المتوسط، بل في مناطق واسعة من غربي آسيا وجنوبيها. وكذلك في بعض مناطق أفريقيا. ومن هذه المناطق انتشر مع هجرات الشعوب، إلى مناطق واسعة من العالم.
والمرض غير مُعد، ولا ينتقل من المُصاب إلى السليم عبر نقل الدم، بل هو مرض جيني ينتقل بالوراثة نتيجة للزواج، إما من الأم الحاملة للمرض أو من الأب الحامل له.
فهم حقيقة المرض
وبالرغم من شيوع الإصابات بهذا المرض الوراثي في الدم، إلا أن كثيراً من المرضى أنفسهم ومن ذويهم لا يُدركون حقيقة المشكلة المرضية ولا جوانبها العلاجية والوقائية. والغموض أو عدم الفهم مردّه ذلك التعقيد المتمثل في نوعية هذا المرض وآلية حصوله وتداعياته.
ولكي نُدرك بالفهم هذا المرض، علينا مراجعة المقدمات التالية:
- خلايا الدم الحمراء: يُكون الجسم ثلاثة أنواع من «الخلايا» في الدم. وهي لخلايا الدم الحمراء Red Blood Cells، وخلايا الدم البيضاء White Blood Cells، والصفائح الدموية Platelets. وتحتوي خلايا الدم الحمراء على كميات من مُركب الهيموغلوبين.
ـ الهيموجلوبين: أو ما يُسمى بالترجمة للغة العربية بـ «خضاب الدم» أو «صبغة الدم». وهو مركب كيميائي، مُكون من أربعة سلاسل من البروتينات. وكل واحد من تلك السلاسل مُلتف حول نفسه بطريقة قد تبدو للناظر أنها عشوائية. والمهم أن تلك السلاسل الأربعة تُكون شكلاً فريداً، أشبه ما يكون بأربع كرات متقابلة.
وفي المركز بين تلك السلاسل الكروية الأربعة يُوجد الحديد. أي أشبه ما يكون بزهرة مكونة من أربع ورقات تلتصق في المركز بدائرة صغيرة. هذا هو الهيموغلوبين الموجود في داخل كرة الدم الحمراء.
وبالمناسبة، فإن خلايا الدم الحمراء سُميت بـ «الحمراء» لأن لون مُركب الهيموغلوبين أحمر. ووظيفة الهيموغلوبين هي تكوين عربة، أو ناقلة، يستقلها الأوكسجين في رحلته من الرئة إلى الأنسجة، عبر الدم. ويستقلها أيضاً ثاني أوكسيد الكربون في رحلته من الأنسجة إلى الرئة كي يتخلص الجسم منه هناك.
ـ بيتا وألفا: والسلاسل الأربعة للهيموغلوبين، منها اثنان من نوع ألفا ، واثنان من نوع بيتا. ومعلوم أن تكوين وإنتاج كل شيء في الجسم، سواءً كان مركبات أو أنسجة أو خلايا أو أعضاء، يخضع لتعليمات مُشفرة ومختزنة في الجينات الوراثية الموجودة في داخل ألـحمض النووي «دي أن إيه» للكروموسومات Chromosome الموجودة في داخل نواة كل خلية.
وضمن آليات وراثية معقدة عند التزاوج فيما بين الذكر والأنثى، تنتقل هذه المعلومات المُختزنة في الحمض النووي إلى الأبناء والبنات. ولذا تظهر تأثيرات هذه المعلومات الجينية كصفات على الأبناء والبنات وفق طريقة قوية، تُسمى «سائدة»، أو وفق طريقة ضعيفة، تُسمى «متنحية».
ـ المعلومات الوراثية: والخاصة منها لإنتاج سلاسل «بيتا» مُختزنة في جين واحد وهو كروموسوم رقم 11.
بينما تلك التي توجه لإنتاج سلاسل «ألفا» فهي مُختزنة في 2 من الجينات متقاربين ضمن تراكيب كروموسوم 16.
والإنسان الطبيعي، والذي لديه مكونات أربعة طبيعية من سلاسل بروتينات الهيموغلوبين، يمتلك نسختين من كل كروموسوم. ولذا يملك موضعين loci يختزنان معلومات عن سلسلة «بيتا» وأربعة مواضع تختزن معلومات عن سلسلة «ألفا». أي لدينا ستة مواضع لاختزان معلومات إنتاج هذين النوعين من السلاسل البروتينية.
ـ الثلاسيميا: مرض سببه نقص Deficiency في إنتاج إما سلاسل «ألفا» أو سلاسل بيتا. وهذا النقص في الإنتاج لا يكون إلا نتيجة لوجود خلل في توريث المعلومات المُختزنة حول طريقة إنتاج أي من تلك السلاسل البروتينية.
ولذا لدينا بالعموم نوعان من «ثلاسيميا»، نوع فيه نقص وجود سلسلة «ألفا» ونوع فيه نقص وجود سلسلة «بيتا». ولكي يُنتج جسم الطفل السليم هذين النوعين من السلاسل البروتينية عليه أن يأخذ من الأب ومن الأم كامل المواضع الستة لاختزان المعلومات عن سلسلة «ألفا» وسلسلة «بيتا».
- درجات الخلل: الخلل في توريث مواضع اختزان المعلومات لا يكون بالضرورة في 6 مواضع، بل قد يكون في أقل من ذلك. ولذا لدينا درجات متفاوتة الشدة في كل من حالات «ثلاسيميا» الناجمة عن نقص إما «ألفا» أو نقص «بيتا».
ـ هيموجلوبين تعويضي: هناك أنواع عدة من الهيموغلوبين، منها ما يظهر في المرحلة الجنينية ويختفي تدريجياً مع ما بعد الولادة، ومنها ما هو خاص بالبالغين، ومنها ما يُوجد في الدم خلال مراحل العمر كلها. ويختلف تركيب الهيموغلوبين من ناحية نوعية السلاسل البروتينية فيه. ونوع البالغين هو المكون من سلسلتين لـ «ألفا» وسلسلتين لـ «بيتا».
لماذا أنيميا البحر مشكلة؟
من الضروري إدراك سبب المشكلة، خاصة حينما نتحدث عن مرض شائع في مناطقنا العربية والشرق أوسطية، في حين أنه مرض معقد في نوعية الخلل الحاصل في تكوين سلاسل بروتينية داخل مركب الهيموغلوبين.
الإشكاليات في مرض «ثلاسيميا»، التي على المريض وذويه إدراكها وفهمها، تتمثل في ثلاثة أمور، هي الدور الوراثي للإصابة بالمرض، وعدم القدرة على إنتاج هيموغلوبين طبيعي، وتداعيات وتأثيرات وجود هيموغلوبين غير طبيعي في دم المريض.
وكما سبق ذكره، يتكون الهيموغلوبين من أربعة سلاسل بروتينية. ووجودها بشكل طبيعي، أي اثنين «ألفا» واثنين «بيتا»، يُكون لنا هيموغلوبيناً ذا مقعد مُريح ومتسع يُمكن للأوكسجين أن يدخل إليه كي يتم نقله من الرئة إلى الأنسجة التي تحتاج إليه لحياتها.
أي يُمكننا من الحصول على سيارة قوية ورحْبة وقادرة على استيعاب الراكب وتوصيله حيثما أراد، وإنزاله من السيارة بكل يُسر وسهولة حال وصوله إلى المكان الذي يُراد توصيله إليه.
وحينما لا يتمكن الجسم من إنتاج سلسلتين من نوع «ألفا» مثلاً، فإن الجسم لا يترك الهيموغلوبين مكوناً من سلسلتين فقط لـ «بيتا»، بل، وفي محاولة لترميم الوضع كيفما اتفق، يُجبر آنذاك على إنتاج سلسلتين أُخريين من «بيتا» كي يكتمل تركيب الأربعة أجزاء للهيموغلوبين.
وهنا يتكون لدينا هيموغلوبين ذا أربعة سلاسل بروتينية من نوع «بيتا» فقط. وهذا الهيموغلوبين، الذي يُسمى بنوع اتش Hemoglobin H، لا يستطيع بكل سهولة توفير الراحة لجلوس الأوكسجين، ولا يُمكن للجسم بالأصل إنتاج كميات عالية ولازمة من هذا الهيموغلوبين الشاذ في الدم.
أي أن عدم قدرة الجسم على إنتاج سلاسل «ألفا» أدى إلى عدم توفير أمكنة كافية تتسع لنقل كل الأوكسجين المطلوب نقله من الرئة إلى الأنسجة، وعدم قدرة الأوكسجين على الانفكاك من ذلك المقعد غير المريح والنزول في المكان الذي يقصده، وأيضاً عدم قدرة الجسم على إنتاج كمية كافية من الهيموغلوبين للدم.
وهو ما يعني تلقائياً أن لدينا حالة من فقر الدم أو الأنيميا، لأن هذه الأنواع من الخلل في إنتاج السلاسل البروتيني ستؤدي إلى إنتاج هيموغلوبين ضعيف وغير طبيعي البُنية، وستؤدي إلى إنتاج خلايا دم حمراء غير طبيعية من ناحية مكوناتها من الهيموغلوبين، ما سيُؤثر في حجم وعمر الخلية الحمراء نفسها.
أعراض مرضية لـ «الثلاسيميا»
وفي حالات الأنيميا الشديدة، أي في حالات «بيتا ثلاسيميا الكبرى» وحالات «هيموغلوبين اتش»، تظهر علامات متنوعة لفقر الدم على المرضى، ومنها شحوب لون الجلد وزوال ذلك اللون الوردي لباطن الكف والخد وملتحمة العين، وتدني الشهية للأكل، وغُمْق لون البول، وبُطء النمو الجسدي، وتأخر البلوغ، وتضخم الطحال والكبد والقلب، واضطرابات في سلامة شكل وبنية وقوة العظم.
ونتيجة لأسلوب المُعالجة، الهادف للإبقاء على حياة المريض، فإن تكرار نقل الدم للمريض يتسبب بتراكم كميات كبيرة من الحديد في الجسم، ما يتركز في أعضاء مهمة كالقلب والكبد والبنكرياس.
والواقع أن السبب الرئيس للوفاة لدى مرضى الثلاسيميا المُعالجين هو نتيجة لتأثر القلب بتراكم الحديد فيه، وهو ما يُؤدي إلى فشل القلب Heart Failure نتيجة للضعف في قوة انقباض وانبساط عضلة القلب.
وأيضاً ما يُؤدي إلى نشوء اضطرابات في كهرباء القلب وإيقاع النبض Arrhythmias وإلى النوبات القلبية Heart Attack.
كما ترتفع احتمالات الإصابة بالتهابات ميكروبية، ما يُجعلها السبب الثاني للوفيات بين مرضى الثلاسيميا. هذا بالإضافة إلى ضعف وهشاشة العظم.
منقول
...